فصل: ذهاب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال البيهقي في ‏"‏السنن الكبرى‏"‏‏:‏ وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة، وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا من غير محرم، فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم، فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، ويومًا فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏، فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدًّا للسفر‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى‏.‏ وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضًا غير متجه، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيمًا وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف مدة ثلاثة أيام، فإن مكثها مسافرًا فذلك، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك، وذهب جماعة من أهل العلم‏:‏ إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجّوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر، وبما رواه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏ عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة؛ لأنه قال‏:‏ ‏"‏باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا وليلة سفرًا‏"‏؛ لأن قوله‏:‏ وسمى النبيُّ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ بعد قوله‏:‏ ‏"‏في كم يقصر الصلاة‏"‏، يدلّ على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر‏.‏

وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله

وممن قال بهذا داود الظاهري، قال عنه بعض أهل العلم‏:‏ حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتجّ أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ عن يحيىا بن يزيد الهنائي قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال‏:‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشَّاك، صلّى ركعتين‏"‏، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في ‏"‏ الصحيح ‏"‏ عن جبير بن نفير قال‏:‏ ‏"‏ خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلّى ركعتين فقلت له‏.‏ فقال‏:‏ رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال‏:‏ إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل ‏"‏، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور‏.‏ فقوله إن عمر رضي اللَّه عنه صلّى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلّى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره، قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه قال ابن حجر في ‏"‏ تلخيص الحبير ‏"‏‏:‏ وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة وسكت عليه ‏"‏، فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ياأهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ‏"‏ ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، وكذبه الثوري‏.‏

وقال الأزدي‏:‏ لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح، ورواه عنه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بلاغًا، وقد قدمناه‏.‏

والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه إسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أُحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ‏؟‏ فإن كان صحيحًا كان نصًّا قويًّا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكّة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول‏:‏ القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات، من مناسك الحجّ، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال‏:‏ إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة؛ لإطلاق السفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ ‏"‏ إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ‏"‏‏.‏

وقال الثوري‏:‏ سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ ‏"‏ لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة ‏"‏‏.‏

قال ابن حجر في ‏"‏ الفتح ‏"‏‏:‏ إسناد كل منهما صحيح‏.‏اهـ والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

الفرع الثالث‏:‏ يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلىّ بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال‏:‏ وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء، أنه قال‏:‏ إذا جاوز حيطان داره فله القصر‏.‏

قال النووي‏:‏ فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر‏.‏اهـ‏.‏ منه، وهو ظاهر كما ترى‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدىا الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون‏:‏ لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول‏:‏ إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة‏.‏

وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه‏:‏ هي نصف شهر، واحتجّ من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر‏"‏، هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه‏:‏ ‏"‏ للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة ‏"‏، وفي رواية له عنه‏:‏ ‏"‏ يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا ‏"‏، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ثلاث للمهاجر بعد الصدر ‏"‏ اهـ‏.‏ قالوا فإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدلّ على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا ‏"‏، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر؛ لأنه يعتضد بالقياس؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة أيام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتجّ الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس رضي اللَّه عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قدم مكة في حجّة الوداع صبح رابعة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلّى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصّر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة؛ لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن ‏"‏، قال‏:‏ فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم قصّر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ‏.‏

وروى الأثرم، عن أحمد رحمه اللَّه أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجّة الوداع عشرًا يقصّر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكّة ومنى ومزدلفة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق‏.‏

تنبيــه

حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر‏"‏، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا؛ لأن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناويًا الإقامة؛ والإقامة المجرّدة عن نيْة لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

واحتجّ أبو حنيفة رحمه اللَّه لأنها نصف شهر، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكّة عام الفتح خمسة عشر، يقصّر الصلاة‏"‏ وضعف النووي في الخلاصة، رواية خمسة عشر‏.‏

قال الحافظ ابن حجر في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي، من رواية عراك بن مالك، عن عبيد اللَّه، عن ابن عباس كذلك، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر، عن رواية سبعة عشر، ورواية ثمانية عشر، ورواية تسعة عشر؛ لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقًا، وأرجح الروايات، وأكثرها ورودًا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وجمع البيهقي بين الروايات، بأن من قال‏:‏ تسعة عشر، عدّ يوم الدخول، ويوم الخروج، ومن قال‏:‏ سبع عشرة حذفهما، ومن قال‏:‏ ثماني عشرة حذف أحدهما‏.‏

أما رواية خمسة عشر، فالظاهر فيها أن الراوي ظن، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها، يوم الدخول، ويوم الخروج، فصار الباقي خمسة عشر، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يتم بعد أربعة أيام‏.‏

والثاني‏:‏ بعد سبعة عشر يومًا‏.‏

والثالث‏:‏ ثمانية عشر‏.‏

والرابع‏:‏ تسعة عشر‏.‏

والخامس‏:‏ عشرين يومًا‏.‏

والسادس‏:‏ يقصر أبدًا حتى يجمع على الإقامة‏.‏

والسابع‏:‏ للمحارب أن يقصر، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام‏.‏

وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة، ويدلّ له قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة إقامته في مكة عام الفتح، كما ثبت في الصحيح، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة ‏"‏‏.‏ وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم، وأعلّه الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيىا بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمان بن ثوبان مرسلاً، وأن الأوزاعي رواه عن يحيىا عن أنس فقال‏:‏ ‏"‏بضع عشرة‏"‏ وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف‏.‏

قال البيهقي بعد إخراجه له‏:‏ ولا أراه محفوظًا، وقد روي من وجه آخر عن جابر‏:‏ ‏"‏ بضع عشرة ‏"‏‏.‏اهـ‏.‏ وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال‏:‏ الصحيح عن الأوزاعي عن يحيىا أن أنسًا كان يفعله‏.‏ قال ابن حجر‏:‏ ويحيىا لم يسمع من أنس‏.‏

وقال النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏‏:‏ قلت ورواية المسند تفرّد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند‏.‏اهـ‏.‏ منه وعقده صاحب ‏"‏المراقي‏"‏ بقوله‏:‏ والرفع والوصول وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

الخ‏.‏‏.‏‏.‏

واستدل أيضًا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ ‏"‏غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلة لا يصلّي إلا ركعتين يقول‏:‏ ‏(‏يا أهل البلدة صلوا أربعًا فإنا سفر‏"‏، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ‏"‏ فإنا سفر ‏"‏ مع إقامته ثماني عشرة يدلّ دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه إسم المسافر، ويؤيّده حديث‏:‏ ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏، وهذا الحديث حسنه الترمذي، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق‏.‏اهـ‏.‏ وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونًا بغيره‏.‏

وقال الترمذي في حديثه في السفر‏:‏ حسن صحيح، وقال‏:‏ صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ اختلط في كبره، وقد روى عنه شعبة، والثوري، وعبد الوارث، وخلق‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ إنما فيه لين، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه، لكن يتقى منه ما كان بعد الإختلاط‏.‏اهـ‏.‏ إلى غير ذلك من الأدلّة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر، ‏"‏ وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة ‏"‏‏.‏ رواه البيهقي بإسناد صحيح، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏‏.‏

وقد روى أحمد في ‏"‏مسنده‏"‏ عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏"‏كنت بأذربيجان لا أدري قال‏:‏ أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين‏"‏، وأخرجه البيهقي‏.‏

وقال ابن حجر في ‏"‏التلخيص‏"‏‏:‏ إن إسناده صحيح‏.‏اهـ‏.‏

ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح‏.‏

الفرع الخامس‏:‏ إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة؛ لأن الزوجة في حكم الوطن، وهذا هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد، وبه قال ابن عباس‏:‏ وروي عن عثمان بن عفان، واحتجّ من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي في ‏"‏مسنديهما‏"‏ عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أنه صلّى بأهل منى أربعًا وقال‏:‏ يا أيها الناس، لمّا قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا تأهل الرجل ببلده فإنه يصلّي بها صلاة المقيم‏"‏‏.‏

قال ابن القيم في ‏"‏زاد المعاد‏"‏، بعد أن ساق هذا الحديث‏:‏ وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان، يعني‏:‏ فدي مخالفته النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى، وأعلّ البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم، وهو ضعيف‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ قال أبو البركات بن تيمية‏:‏ ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في ‏"‏تاريخه‏"‏ ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نصّ أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما‏.‏اهـ‏.‏ منه بلفظه‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر لي، واللَّه تعالى أعلم، أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة، كما ثبت في ‏"‏ صحيح مسلم ‏"‏ ‏"‏أنه صدقة تصدق اللَّه بها‏"‏‏.‏اهـ‏.‏ وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدلّ لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة‏:‏ ‏"‏ أنها كانت تصلّي أربعًا قال‏:‏ فقلت لها‏:‏ لو صلّيت ركعتين، فقالت‏:‏ يا ابن أختي إنه لا يشقّ عليّ ‏"‏، وهذا أصرح شىء عنها في تعيين ما تأوّلت به، واللَّه أعلم‏.‏

الفرع السادس‏:‏ لا يجوز للمسافر في معصية القصر؛ لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته، ويستدلّ لهذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم، والضرورة أشدّ في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانيف للإثم يدلّ على منعه به فيما دونه من باب أولى، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافًا للشافعي وقوم كما بينّاه مرارًا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط، ويسمّيه الشافعي القياس في معنى الأصل، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه اللَّه فقال‏:‏ يقصّر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص؛ ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه، وبه قال الثوري والأوزاعي، والقول الأول أظهر عندي، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}

، إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـاباً مَّوْقُوتاً ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابًا، أي‏:‏ شيئًا مكتوبًا عليهم واجبًا حتمًا موقوتًا، أي‏:‏ له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات، ولكنه أشار لها في مواضع أُخر كقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏، فأشار بقوله‏:‏ ‏{‏لِدُلُوكِ الشَّمْسِ‏}‏ وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر؛ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ‏}‏ وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء؛ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ إلى صلاة الصبح، وعبّر عنها بالقرءان بمعنى القراءة؛ لأنها ركن فيها من التعبير عن الشىء بإسم بعضه‏.‏

وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحًا كليًا، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏، قالوا‏:‏ المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة، وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ إلى صلاة المغرب والعشاء، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ إلى صلاة الصبح، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَعَشِيًّا‏}‏ إلى صلاة العصر، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ إلى صلاة الظهر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ‏}‏، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي‏:‏ في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء‏.‏